قصص

ذاكرة الفم الملوّن


أُفتِّشُ العصرَ.. لم أعثر على زَمَني
لا وقتَ في كلِّ هذا الوقتِ يُشْبِهُني

عصرٌ يصوغُ من الآلاتِ مخلبَهُ
ويطحنُ الخلقَ في طاحونةِ المُدُنِ

جاسم الصحيح

الجو غائم، أو شاعريٌّ كما تقول خالتي سلوى التي تحب نزار قباني. أرفع الآيفون، ألتقط سيلفي، لا يعجبني. سيارتي بانت خلفي، وخلفها الأبراج العالية والجسر، ظهرت الأغصان اليابسة للشجرة بجانبي، قطط مرّت، أشخاص يمشون على الرصيف، شفتي بدت متورّدة كأني لست مُدخنًا شرهًا بشفاهٍ قاتمة. أنا لم أرد سوى أن ألتقط صورةً لي مع الغيم. لكن صورتي لم تُشبهني، كما أن حجمي فيها صغيرٌ جدًا. كل شيء ظهر في الصورة بوضوح؛ الحديد واليَبَاس والرصيف والمارّة والقطط، ما عداي أنا، كأني طارئٌ على الصورة ولستُ سببًا في خلقها.

عدسة الآيفون عالية الجودة، لكنها ضيّقة الأفق، قلّصت عدد الغيم في سماء الصورة، التقطتْ غيومًا قليلة لم تعجبني، ولم أردها أن تظهر بجانب رأسي.

الغيم ملأ السماء والمطر بدأ الهطول. أعود إلى الألبوم القديم.

أمسكتْ أمي الصورة مبتسمة، وأشارت إلى عدم تشابهنا اليوم، أنا والصورة في الألبوم. عدسات سوداء، إطار أحمرٌ مزيّن بملصقات الرجل العنكبوت، لساني أزرق، جيبي ممتلئ بحلاوة أبو بقرة بقرطاسها الأحمر، كنت أجرفُ من الصندوق كمية كبيرة منها، قبل أن يضبطني العامل، ويأمرني أن أكتفي بأخذ واحدة فقط. صرخت في وجهه: “بكيفي محل خالي.” ضحك العامل بينما كنت أهرب منه، وأختبئ بين صناديق الحلويات مختلفة الألوان والمكسرات وعلب البهارات ذات الرائحة اللاذعة. من بعيد مدَّ لي العامل كأس ثلجٍ بلون أزرق، “سلاش بابا؟” فابتهجت. التقط خالي بكاميرته كانون أوتوبوي صورةً لا تُشبهني اليوم، لكنها تُشبهني طفلًا كما أخبرتني أمي. طفل مشاغب بلسانٍ أزرق، وجيب ممتلئ بالحلاوة.

*

اشتريتُ هاتفًا جديدًا؛ سامسونج يمتاز بجودة أعلى في التصوير، كما أُعلن عنه، له عدسة تلتقط الصور بشكلٍ طوليٍّ، تقدر على التقاط غيومٍ أكثر. لكن الغيم والجوّ الشاعري ذهب كما ذهب شعر نزار، ذهب الشعر والشعراء، تؤكّد خالتي.

التقطُ سيلفي على أي حال، لكنه لم يعجبني أيضًا. أوعزت السبب إلى ذقني غير الحليق، وابتسامةٍ اغتصبتْ وجهي، ربما لست في مزاجٍ جيّد. الطقس مشمس هذا اليوم.

كما أن العدسة لم تلتقط شيئًا مغايرًا؛ البرج عالٍ في سماء الصورة، الجسر يقسمها بالنص، رأيت طوب الرصيف كجثث طيورٍ متراصّة، وبقية الأشياء: الأغصان اليابسة والقطط والمارّة كما هي. الصورة عادت لتؤكّد لي أني لا أزال صغيرًا جدًا. كأنها صورة إطار على رفّ محل تجاري، تنتظر مشتريها لينزعها من الإطار ويرميها، باستثناء وجهي الطارئ عليها.

إذن لا تختلف الصناعات الشرقية عن الغربية في شيء. أعود إلى الألبوم القديم.

خالتي سلوى وأمي لا تجتمعان على رأي واحد. الأحمر القاني على شفتيّ وذقني لا أذكر سببه. خالتي تقول بأنني أكثرت من عصير التوت. بينما أمي تذكر بأني سقطت على درج المسرح، وفي وسط الربكة التي رافقت زفّة خالي إلى عروسه، لم ينتبه لي أحد إلى أن التُقطت الصورة؛ أنا بسنّين أماميين بارزين من فمي العِنَبيُّ، أقف بجانب خالي المزهوّ بالبشت على كتفيه ومرزام غترته معوجٌّ لم يُعدّله أحد قبل أن يُزفّ إلى النساء وتستقبله زغاريدهنّ.

لكن خالتي وأمي اتفقتا على أن الصورة تُشبه ذلك الصبيّ المشاغب ذو اللطخة العنابية، ولا تُشبه الرجل ذو الشفاه القاتمة بحجمه الصغير في السيلفي.

*

أحاول تصفية ذهني قبل أن ألتقط السيلفي، أمسك جميع الهواتف؛ الشرقية والغربية، الشمالية والجنوبية أيضًا. أرفعها عاليًّا، العدسات كلها مصوّبة نحو وجهي فقط، دون إظهار أيّ شيء آخر.. لا غيم أريد اصطياده، ولا طريق ولا غصن ولا أرصفة مبللة بالمطر ستظهر بغتة، التقطتُ الصورة.

مجددًا الصورة تُظهر الحديد ويَبَاس الكائنات. لكن هذه المرّة العدسة لم تلتقطني حتى ولو بشكلٍ طارئٍ على الصورة.

15 فبراير 2025

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى