مبابي سَيُسجّل ونانسي لن تغنّي

هذا الصباح مزاجي متعكّر، ولا أعرف السبب. في الصباح البرد يمازحنا، فلا يأتينا بأكمله، بل يتيح للشمس فرصة الظهور بقسوة، دون اعتراف بفصل الشتاء. في الصباح المترو مزدحمٌ جدًا. تُفصّل نظرات سيّدة، من وراء النقاب، لجسمي ثوبًا: شعري الذي لم أصففه، شاربي الأشعث، عينيّ الضيقتين، وكل ما بي وما أنا أبدوه في تلك اللحظة. لكنني لم أكترث، كنت أسمع موسيقى شوبان. جامعيٌ يضربني بكوعه، ثم يعتذر وينظر إلى ساعته، عجوز يحمل كيس أدوية ويستغفر بمسبحته السوداء. والسيدة تفصّل ثوبي، وأنا أعد نفسي أن مبابي سيسجل في مباراة الغد ويصبح هدّاف البطولة. لماذا لم يوقّع لمدريد في وقت سابق، هذا سؤال يعجز عن إجابته أدهى المحللون، وربما مبابي نفسه سيصف نفسه بالأحمق حين تأخر في التوقيع، لكنه اختياره في الأول والأخير، اختياره.
يتّصل المدير، يخبرني أنه وجد مكتبًا مناسبًا لي في المنطقة رقم ستّة، غير أنه ليس مناسبًا تمامًا لذا فقد قرر أنه سيدمج المكتب الموجود في منطقة رقم ستّة للمكتب الموجود في المنطقة رقم خمسة، المسؤول أنا عنها. ويخبرني أيضًا بأنني حينما أصل سنجتمع بمدير المشروع لنطرح عليه هذا الحل العبقري، فهو بالتأكيد لن يرضيه أن يظل “مهندس سعودي شاب وطموح” بلا مكتب وبلا جهاز كومبيوتر لأكثر من ثمانية شهور في المشروع. فأقول في نفسي أقل من ثمانية شهور ربما يرضيه أمّا أكثر لا يرضيه. مديري كان فرحًا بالحل بعد أن تعب في التواصل مع المقاول حتى يظفر بهذا الحل المتواضع. أكّد لي:
“هندسة المكتب وسخ شويتين، بس حيتنظف ما تشلش هم، والميّه والكهربا حتتوصل خلال الأسبوع ده، والكومبيوتر حيقيلك اليومين دول، وسامحنا.. ده انت مقامك كبير، بس ده حل مؤقت واللهي.” بالمناسبة جهاز الكومبيوتر والمكتب كان مدير المشروع يخبرني أن خلال أسبوعين سوف أتسلمهم منذ بداية قدومي للمشروع.
أشكر مديري وأفكر: لماذا نانسي عجرم لا تختار أعمالًا أفضل مما تغنيه؟ صوتها جميل ويعجبني، إلا أن أغانيها لا تناسبني مطلقًا. تعجبني حينما تغنّي لفيروز مثلًا، أو حين غنّت “أنا بعشقك أنا.. أنا كلّي لك أنا.” لا يهم علّي أن أصل إلى المكتب، أعد نفسي بأنني سأمرّ بمقهىً ما لآخذ قهوة قبل الاجتماع الذي سيُمطرني فيه مدير المشروع بالميح ثم يؤكد على أنه يدعم ويثق بالمهندسين السعوديين. حين ركبت السيارة شغّلت نانسي عجرم “أنا بعشقك”، ورحت أفكّر كم من الأهداف سيسجّل مبابي في مباراة الغد، خصوصًا وأن فيني لن يلعب.
أصل المكتب. أدخل في نقاش طويل مع مديري حول كل شيء: عن خسارة الهلال البارحة، الفرق بين الكرة المصرية والكرة السعودية، عمّا سيفعله مانشستر سيتي في مباراة الغد، صلاح ومبابي: هل سيسجلان أم لا؟ ندخل دون أن ندري في حديث عن الفرق بين الثقافة الغربية والثقافة الإسلامية. أخبرني عن مواقف حصلت معه أثناء مزاملته لموظفين إنقليز حينما كان يعمل في إنشاء فندق الفورسيزون في الإسكندرية، وغيرها الكثير. في نهاية الحديث قال:
“المدير مشغول شوية، بس انت متشلش هم المكتب حيكون جاهز بكرة باذن الله.”
قبل أن أخرج يسألني:
“مهندس عبادي.. متشوفلك شركة أحسن من شركتنا دي ليه؟ كل الشركات عايزين مهندسين سعوديين، وبمرتّبات أعلى كمان.”
أخرج وأنا أسأل نفسي: “لماذا اختار مبابي تأخير قدومه إلى مدريد؟ ولماذا نانسي تختار أغانٍ كتلك التي تغنّيها؟ ولماذا أنا هنا؟”