الكتابة دون تفكير

اليوم، السادسة صباحًا، مقهى وكف.
صحوت فجأة على شعور التجرّد من نفسي، بعدما عشت سنواتٍ تحت ظلّي باعتزاز ربما أعبّر الآن عنه بالاعتزاز الأحمق، أنكرت ذاتي لأول مرة والآن أنا أمامكم أصفها بالحمق، وأكنّ لها كل ما يحمله العالم من كراهية. الآن وبعد سنواتٍ من لهاثي المستمر غير المنقطع نحو الكتابة، منكبًّا عليها ليل نهار كما تقول أمي أو كما تقول إحداهن، إحداهن آآآه.. يا لها من طعنة لم أحسب لها حسابًا، قد أتحدث عنها لاحقًا وربما لن أفعل، الآن ما يهمنا هو اللهاث نحو الكتابة، لهاث؟ نعم هو كذلك فأنا كالكلب حينما أكتب، وأنا عندما أصف نفسي هكذا لا أصبغ على نفسي هالة ذلك الكاتب الغريب الذي يجهل الناس حياته وطريقته في الكتابة، بل كنت أعني الكلب حرفيًّا، فالكلب عندما يلحق فريسة ما ينطلق نحوها دون تفكير، أو لأن فكرة اللحاق وراء شيء مهما كان ذلك الشيء يُمتعه، ربما لتزجية الوقت.. للتسلية نعم ربما للتسلية، وعندما يتمكن منها قد ينهش لحمها، مجرد النهش ثم يتركها لأن اللعبة انتهت وهو ملّ اللحاق. الآن هل فهمتم لمَ أطلق على نفسي هذا التشبيه الذي قد يرآه البعض بأنه تشبيه أهوج وليس في محله؟
أخبرني مرشدي الأدبي، “my advisor” نعم ترجمتها لأتأكد من فهمكم فاليوم بتّ لا أثق كثيرًا بالكلمات، بأن يجب عليّ أن أكتب وحسب، فهو في اعتقاده أنني وصلت إلى طريقٍ علاجه الوحيد الكتابة دون تفكير، كما أكتب لكم الآن بالضبط، فأنا لم أعد كم مرة كررت الكلمات مثلًا: أنا، والآن، وغيرها الكثير، وألا أعتني باسلوب الجمل التي أكتبها ولا جودتها، يكرر: “عبّاد! بس أكتب، رحم الله والديك”. صدق والله العظيم، الله يرحم والديني، ولكني اليوم لا أطلب من الله سوى أن يرحم هذا الخيال الذي بدأ ينضب وهذه اليد التي تخذلني كلما شرعت في كتابة شيء، أيّ شيء على الاطلاق، لا أقصد الرواية التي اعتكفت على كتابتها لسنوات، بل حتى وإن أوحت لي الحياة قصة جديدة فأنا إمّا أكتب جزءًا يسيرًا منها، أو أكتبها بشكلٍ رديئ جدًا.
أمي قد ملّت تلك الهواجس التي تأتي وتذهب، وفي اعتقادها أنها لم تذهب أصلا، إنها تأتِ ولا تغادرني أبدًا، وهي تعتقد أيضًا كغيرها من الأمهات أن الزواج سينتشلني من بحر هواجس الكتابة التي غرقت فيها، وأبي لم يزل ينتظر مني الوريث المنتظر لسلالتنا ويعتقد أنني أهملت عملي كثيرًا وأن مشكلة المشروع التي أعمل به هي عدم اهتمامي بعملي وربما عدم زواجي، تلك الأسباب هي ما سببت إيقافه لا فساد الفاسدين وحقد الحاقدين وهذه قضية أخرى لن أتطرق لها. يمرّ في خاطري وصية أختي ذات التسعة أعوام التي توفيت العام الماضي حينما تبتسم في حياء وتخبرني: “عبّاد لازم تتزوج وحدة اسمها فاطمة، نفس اسمي”، وأنا باستغراب أجيبها حاضر، وأخبرها بأنها تأمر وأنا سأنفذ. ربما كانت الحكاية الأخيرة لا داعٍ لذكرها لكني ذكرتها على كل حال، ولماذا؟ لأني أمارس الكتابة دون تفكير كما أوصاني مرشدي الأدبي، ومن هو مرشدي الأدبي؟ لا ضرورة لمعرفته، فإني أتعامل معه بشكلٍ سرّي وهو بطبعه لا يحب افتضاح أمره، كان ولا زال يعمل بشكلٍ سرّي، فهو ذائع الصيت ولا يفضّل أن تربط الناس اسمه بكاتبٍ فقد الثقة بما يكتبه، أو ربما فقد الثقة بما يكتبه، هكذا الجملة تصبح منطقية أكثر، ومن قال إني أكتب بمنطق أو بتفكير، أعتذر منكم.
وحينما يصل الحديث إلى الاعتذار فهو ينتهي.
غدًا
لا أعرف، ربما سأصبح تمرة تدهسها أقدام فلّاحٍ دهسته الحياة كثيرًا، ومصنع تعبئة التمور قد يرفضون تموره.
بعد الغد
لا أعرف…