الحسين يهرب من المنبر

الظلام يغتالُ أعمدة الإنارة ليحتضنَ الشوارع. الأصوات تعلو وتنخفض وتمتزجُ ببعضها. بل كلّ شيءٍ ممتزجٌ ببعضه، ويكاد ألّا يُرى.
لولا أنّ جدّي قال لي: “هذه السفينة الوحيدة للنجاة، يا ولدي” لم أكن لأركبها أو أُبحر بها، ولم أَحْفل بموسم الطوفان الذي يُغرِق العالمَ بالدموع. إلّا أنني، وعلى الرغم من علمي بأن الموسمَ لن يمتدّ لأكثر من عشرة أيامٍ، ركبتها.
أوصلتنا السفينة إلى مدينةٍ بعيدةٍ، كان يحكمها الليل، والظلام ما كان سوى وزيره. كنت وحدي، بحثت كثيرًا عن جدّي ولم أجده. علت الأصوات، امتزجت ببعضها، كما حدث في قريتنا.
تقدّم حارس المدينة نحوي، وقال: “إن للمدينة باب واحدٌ، لا يجوز الدخول إلى المدينة إلا من خلاله. ولها عشرات المساجد صلِّ أينما شئت، لكن كن على حذر! للمدينة منبرٌ واحد. لا ترتكب أيّ حماقة وتستمع للمنابر المزيّفة التي ستهدم سريعًا”. وقبل أن أغادر أرشدني إلى مكان المنبر، كي يختلط عليّ الأمر، وبأنه يجب عليّ أن أصعد المنبر لأعلن عن هويتي الجديدة في مدينتي الجديدة.
دخلت المدينة. كانت ساكنة، إلا من وجود القليل من الناس يصلوّن ويسبّحون الله كثيرًا. كانت أشكالهم ليست مختلفةً كثيرًا عن الناس في قريتي، تكاد تكون مطابقةً لهم، وربما كانوا هم أنفسهم، لكن شيئًا أصاب عيني أو أصابهم.
وصلت المنبر الذي يقع في منتصف المدينة، وكان طريق الصعود إلى أعلاه طويلٌ جدًا، تصل عدد درجات سلّمهِ إلى أربع عشرة درجة. عندما وصلت القمّة رأيت صورةَ رجلٍ معلقة على الجدار، ذات إطارٍ خشبيٍّ وزجاجة تحميها. كان وجه الرجل مضرج بالدماء، يكاد ألّا يُرى. هممتُ بفكّ الإطار لأمسح الدماء عن وجهه وإذا بصوتٍ، يشبه صوت جدّي، ينهاني عن فعل ذلك، ولكنّي لم أرتدع.
قدم الناس إليّ من بعيد. بدأ بعضهم يشتمني، وبدأ بعضهم بقذفي بالحجارة أو شيئًا، لا أعرفه، كان أشدُّ إيذاءً. فخفت كثيرًا على صورة الرجل. فاحتضنتها بقوة وقفزت من جانب المنبر وهربت إلى أزقة مدينتي الجديدة، راكضًا كالمجنون، وكلّ همّي أن الصورة لا تُكسر. فهي من الآن أصبحت مسؤوليتي.
عادَ الصوت، من جديد، ينهاني ويوبخني، رغم أني لا أعرف من أين هو آتٍ. توقفتُ لأستريح قليلًا وامسح الدم عن وجه الرجل. فاقتربَ مني ذلك الصوت. رفعت رأسي، كلّ الناس متحلّقين حولي ويرتدونَ وجه جدّي ويوبخونني. واصلت مسح الدماء من الصورة حتى انتهيت من إزالة الدماء.
شاهدت رجل وقور بعمامة خضراء، تكسو وجهه لحية سوداء يشوبها الشيب القليل. له وجهٌ يشعّ نورًا من شدة بياضه، جميل القسمات.
التفتُ ناحيتهم، وصحتُ بهم:
“انظروا!
انظروا!
إن لهذا الرجل وجهٌ جميلٌ، بالتأكيد لم ترونهُ إطلاقًا”.
العاشر من محرم، سنة 1443 هـ
August 18, 2021