تدوينات

أنشودة المطر الجديدة

صباحٌ سيءٌ. رائحةٌ عفنةٌ. لا شمسٌ تُطلّ لتُذيب سوادَ قلوبنا ولا لتطبخ سُمرة جلودنا. المطرُ شديد الهطول، منذ عامين لم يتوقف يوماً واحداً أو ساعةً واحدةً. تتسابق القطرات في السقوط، أمام عيني، قطرةً قطرةً، كأنها تجهل أن السقوط على قمة الجبل كالسقوط في الوحل. يهوي بشدّةٍ واندفاعٍ من أعلى غيمةٍ في السماء نحو أرضنا المسكينة. يرتطم ويدّوي ضجيجاً لا يسمعه سواي أنا، أنا الذي وهبني الله هذه القدرة. أركض إلى أمي، مرعوباً، لأستريحَ على صدرها هارباً من تلك المناظر والصور والوجوه وضجيج الأصوات، ولم أنتبه لِبَللي، الذي دام أيّاماً لا أدري عددها.

كان المطر شديد الهطول والأرض تزداد اخضراراً، تكاثرت الأشجار والأزهار والأعشاب، القذرة. والمطر لم يترك قطعةً إلا وبللها. كلّ شيءٍ صار أخضر. بيتنا أخضر وحديقتنا خضراء وبيت جاري أخضر، وبيت جدّي. وكرسي مدير المدرسة الإبتدائية، التي تقع على بُعدِ شارعين، صار أخضر. ومذياع المدرسة والعلم والنشيد الوطني والتلاميذ. استفرغت السماء كلّ مائها. الأخضر صار وليد السماء وثوبَ عُرس الأرضِ الخفي. ابنة الجيران تتسلل ليلاً، كعادتها، غرفتي لتسلب أحلام الليلة وتهديني وردةً، سقاها المطر. وأنا لا أجدُ المفردات، التي يتجلّى الله في معانيها. فيسكنُ القلقُ في قلب الحبيبة وتغادر القصيدة من مطلعها. هل سيبقى شوقٌ يشدّني نحو هذه الأرض، التي تطاردني لترسم عثراتي فيستوطن الظلام صدري، الذي بلله المطر؟

أبي لا يزال يُخفي خسّةَ قلبهِ ودناءةَ طبعهِ ليحلّق بعيداً في سماءٍ بلا مطر، وأَدَ أخوتي وأحرقَ جرحي كي لا أبكيهم. وأنا كلّ خوفي أن لا أذوبَ مع المطر، فأصبحُ شجرةً لا تظللُ لاجئيها أو نخلةً لا ثمرَ فيها. وأسألُ نفسي، هل سأذوب حقاً؟ أم الحياة ستفقد ثقتها بإنسانيّتي وتسلبني منّي، وتُصيّرني نبتةً لا خيرَ فيها. أو أصبح مثل عمّي، الذي لا زالَ يبحثُ عن عنترةَ ليناصرهُ، ربّما، أو ليبارزه، لا فرق. هرِبتُ مراراً منهم جميعاً، وهربتُ مرةً من نفسي إلى البحر. لكنّ موجةً أعادتني إلى شواطئ غربتي. فهمس الله في قلبي: إنّ الله مع الصابرين.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى