أسطورة أمّ النخيل

عُدْ يا أبي
فالحقلُ نامَ،
وطالما بالأمسِ
أيقظتَ الحقولَ مُبسمِلا
والأفقُ كحّله الحديد فلم يعد
أفقًا بأعناق النخيل مُكحّلا
جاسم الصحيّح
*
الله في عليائه، والأمّ العجوز تغرس جذورها في الطين، تصلّي بكفوفٍ غَزلتْها الريح؛ أن يردَّ لها الله أبناءها. لم تنكسر، تقف شامخة منذ آلاف السنين. إنها أمٌّ ولود، تلد الأبناء وتهبهم للأرض والبحر.
تطعم الأبناء وتسكنهم ترابها، تُزيّنهم بوردها، و”مَشمُومها” عطرهم، و”الطبينة” رائحة عرقهم، تبكي أحزانهم وتفرح لفرحهم. والأطفال يلعبون من الظهيرة حتى الغروب، يلاحقون الشمس كأزهار عبّادها، وتنهر امرأة تصرخ فيهم: “لا تلعبوا في القوايل يا ملاعين الوالدين.” فيتضاحك الأولاد ويكملون لعبهم. تنهى الشيوخ حين يختلفون على أرضٍ زراعية، كل واحدٍ يزعم أنها تعود إلى جدّه، مستندًا إلى ذاكرة فلان نقلًا عن فلان. وتُليّن قلوب المزارعين حين يختلفون على توزيع أيام ريّ النخيل فيما بينهم. تصهر المختلفين في ترابها، فيمتزج طينها بطينها.
وحين يتخلى عنها بعض أبنائها، تُبدّل طينها، وما يضيرها، والطين هو الطين. طين أخضرٌ وأزرقٌ وأصفر، حامض ومالح وحلوٌ ومُسكرٌ، أبديٌ وسرمديٌ وذهبيٌ، برتقاليٌ وتفاحيٌّ وعنبيٌ ورمانيٌ، رطبٌ ومغبرٌّ وباردٌ وحارٌ كأشواقها.
أمّا هو،
أغرته سمراء بذهبها الأسود.
تودّعه كما تودّع كل أبنائها، وتودعه أسرارها سلوةً، ومراياها شعرًا، وحكاياها نثرًا، وصوتها غناءً، وذهبها طعامًا، ودموعها ماءً كأمٍّ حنون.
قال: “سأتّجه شمالًا، حيث تصبح أمّ النخيل جنوبًا.”
لكن أم النخيل تسكن الشرق، مهما شمألَ وتغرّبَ.
يمشي متردد الخُطى كتردد الذاكرة والحنين، يسافر عشرين سنة اغترابًا، ولم يصل بعدُ إلى وجهته.
يلفّ غترته حول رأسه.
قالوا: “من فتىً؟”
يُخيّل إليه أنهم عنوه، تقدّم. سقطتْ غترته، فسقط معها، نهض.
يريدون استخراج الذهب الأسود، نادوا: “من يحفر الأرض؟”
قال في سرّه: “ومن غيري؟”
ألبسوه قبعة بلاستيكية، جرّدوه ثوبه، ارتدى زيّهم ليصبح أحد مساجين هذه الصحراء.
اعتاد الحفر حافيًا، لكنه انتعل حذاءهم. والقبعة أثقلتْ رأسه، لكنه تحامل، وظنّها ساعات معدوداتٍ وينزعها ما إن ينتهي من الحفر، لكن ظنّه طال كما طال ليله معها، في انتظار أن ينتهوا من الحفر ليعود إلى أهله سالمًا.
أمّ النخيل تمدّ جذورها إلى كل الجهات، تحمي أبناءها، تسمع شكواهم، تتحنن على غربتهم، تمدّ أذرعها لتظلّهم أينما ارتحلوا، وتمدّ كفّيها إلى السماء تصلّي لأجلهم.
أنهكه الحفر، فخرّ على الأرض. وراح يصلّي، يسجد ويناجي: “أمّ النخيل، أرفع صوتي ولا يسمعني أحد. أهمس ولا يسمعني أحد، يا أمّ النخيل. ولا يسمعني أحد حين أضحك وحين أبكي، حينّ أغنّي وحين أحكي. ولا يراني أحد حين أتعب وأسقط، لا أحد.. لا أحد.”
تآنسُ نجواه بحسيس ترابها: “بلغتَ ذُرى المجدِ، يا ولدي، إني ذخرتك للأرض، فكن ماجدًا وطيّبًا.”
ومضى صاحبنا كمُضيّ خطاهُ على الرمل.
April 15, 2025